صراع من أجل الإعتراف… نحو خطاب أخلاقي للصراعات الإجتماعية
مناقشة: الدكتور عمار الفتيتي
سؤال محير شغل العقول على مختلف تخصصات أصحابها. لقد إنشغل هذا السؤال بماهية القوى التي تضبط للتطوّر التاريخي حركته إن كانت هذه القوى ربوبية أم بشرية. أفرزت محاولات تقديم الإجابة عن هذا السؤال قطبين قال أولاهم “بالتسيير” المطلق ليذعن لاحقا إلى التسليم “بالتخيير” لا كإستنتاج برهاني جادت به عليه مؤهّلاته الذهنية بل إذعانا تحت ضغط الحجج الأنطولوجية أن التدثّر بالنوايا “الحسنة” للتملص غير المعلن أو غير المدرك من المسؤولية في المسؤولية قولة كان قد أفرغها من مضامنها كل من زعم خدمتها باللسان وأقعده ذلك عن الفعل لإنتفاء مقوماته بإنتفاء المؤهلات لديه كنتيجة طبيعية للتلذذ خطأ بإحساس “العالم العامل” مثلا لينعكس لاحقا هذا الشرخ في بنيته السيكولوجية على عامة من سلم بصحة هذا المسعى. قابل قطب “التسيير” في تفسير حركة التاريخي قطبا سارعت في نشوء الغرور لدى أصحابه ضحالة معارف الخصم الذي كانوا قد نظروا إليه على ضوء توهّمه الدفاع عن “الحقيقية الربانية” على طريقته بأنه نسخة للرب في الأرض فيسّر ذلك عليهم القول” بقتل الرب”. وقد تراوح هذا الزعم بين التلميح في بيئة ثقافية ما و التصريح في بيئة ثقافية أخرى.
وبالقدر نفسه نظر لهذا “العالم العامل” من قبل مريديه بأنه ناطق بالحقيقة الربانية فساعده هذا على أن يبقى خارج دائرة المحاسبة المعرفية. لمالا، وهو الذي شكل دائما سقف الحقيقة والمعرفة لكل من ألقى له السمع فآل الحال إلى يتم ثقافي و فقر معرفي.
لقد حذرت الفلسفة من ثقافة ” التأليه” هذه، منذرة بخراب الأمم الماسك بناصية الحركة فيها تداول قيم وهمية في سوق نيل “الإعتراف الإجتماعي” وهو الذي يفترض أن يكون الشاهد الأقوى على النجاح العيني، لا هبة لمجرد الإحساس بالتمثيل الإلاهي أو المعرفي.
فمن بين المنشغلين بفصول هذه المعضلة السلوكية في أوجهها الصحية لا المرضيّة الفيلسوف الألماني” أكسل هونات” في 301 صفحة وهو حجم كتابه “صراع من أجل الإعتراف” الذي أقدّم مضامينه هنا بين يدي القارئ.
الإعتراف الإجتماعي, مصادره و مستحقّاته عند هيجل
من المثالية إلى الواقعية في دراسة الصراع من أجل الإعتراف في حياة الإنسان النوعي
الصراع من أجل الإعتراف كقيمة معيارية في تحديد ماهية الإنسان
لقد إشتغل الكاتب في معالجته لهذه المعضلة على دوافع الفعل عند الإنسان وأطوار تكونه في حياته اليومية كنموذج لما أرقى من ذلك في مراتب الفعل البشري.و بدت لي أهمية موضوع هذا الكتاب في أنه جدير بأن يكون مدخلا لوصفة علاجية لسلوك إنسان الشرق قبل إنسان الغرب أين تعنون الأفعال طورا باسم الوطنية وأطوارا باسم القيم الدينية ،حاجبة وراءها الدافع الحقيقي للفعل.
إنطلق الكاتب في طرحه للإشكاليات المتعلقة بموضوع الكتاب بسؤال قديم جديد ألا هو السؤال عن القوى المحركة لدورة عجلة التاريخ .هل هي إرادة ربانية أم طاقة بشرية تولدت عن رغبة الإنسان في البقاء وعن تفاعلات في العلاقات السياسية والإقتصادية…
لتفسير قضية حركة التاريخ وتطورها إختار” أكسل هونات” معركة الإعتراف في الفعل البشري كأهم أداة، مطورا بهذا نظريته في معالجة الصراع الإجتماعي بعد أن استند في ذلك أساسا على” هيجل” و”ميد” .
الإعتراف الإجتماعي, مصادره و مستحقّاته عند هيجل
أولى” هونات” الجزء الأكبر (صفحة 20- 113) من كتابه إلى مرحلتين في فلسفة” هيجل” أي إلى ” نظم الأخلاق” ثم “الفلسفة الواقعية اليانية” نسبة إلى مدينة يانة. فبالقدرالذي أكد به “هونات” على أهمية دور فلسفة “هيجل” في معالجة إشكالية ” الصراع من أجل الإعتراف” أشار به إلى أنها لم تظهرفي بدايتها النضج الكافي على ضوء ما قدمته من صور للأخلاق وقد تدرّج هيجل في ذلك ليصبح لاحقا طرحه أكثر نضجا.
مثل مفهوم “فهم حالة البدأ” gszustandsVerstaendnis des AVers ) أو فهم المنطلقات عند “هيجل” أحد أوجه الأهمية التي لمسها “هونات” في فلسفة هيجل أثناء محاولة الأخير تبيان شروط إستحقاق نيل الإعتراف, على عكس “هوبس” الذي ينطلق من فكرة صراع الكل ضد الكل كأصل في الفعل البشري في معركة إنتزاع “الإعتراف” وهو الطبيعي في الإنسان حسب الفكر الهوبسي , يرى “هيجل” أن الإلتزام بالقيم القائمة هو الطريق الموصل لنيل “الإعتراف” و الدافع للصراع من أجله . فالسعي للإعتراف على هذه الشاكلة هي القيمة المتبادلة في أصل الفعل البشري وقد تفرز هذه العلاقات البشرية صراعات إجتماعية كأرقى درجات السعى لإنتزاع ألإعتراف مردّها الإنتصار للقيمة. هذا الفعل المتخلق لا يراه هيجل في تناول و تداول المتوارث من قيم مبهمة – وإن ميز ذلك سرعته في التعبئة الكمية مع قصر عمر الفعل أو إنتفاءه – بل أن فاعلية هذا الفعل لا تتحدد إلا بدرجة وعي الفاعل بما يفعل ,وهذا لا يتحقق إلا بإعمال العقل, بمعنى أن هذا الفعل القيمي هو حصيلة مجهود ذهني (22). بهذا غادر “هيجل” فلسفة “فيشتة” وغادر معها التحديد “التليلوجي” للفعل البشري- كما يرى ذلك هونات- في “نظم الأخلاق”(31) إلى “فلسفة الوعي” لعدم قدرة الأولى على تفسير الظواهر السلوكية. فالمؤهلات الفكرية أصبحت في هذه المرحلة من الفكر الهيجلي المقياس الوحيد في “الصراع من أجل الإعتراف” حيث أنه لم تعد تحققه قي المرحلة الجديدة العلاقة الجدلية بين الأفراد القائمة على الإلتزام بالمتاح من القيم, بل أصبج العمل الذهني والمنتوج العقلي المحور في “الصراع من أجل الإعتراف”(49). فالعمل العقلي- بإعتباره حراك واع- هو الجدير بالإعتراف في اتجاهيه؛ في تحديد ماهية الإعتراف و نيله.
هنا توحي فلسفة هيجل بأنها دعوة للتقوقع لأنها لم تعد ساحة صراع من أجل الإعتراف بين كيانات إجتماعية بل بين أفكار مجردة. يجيب “هونات” عن “هيجل”(52) – بعد أن بين دوافع تحول الفكر الهيجلي إلى “فلسفة الوعي” و إعطاءه الأولوية للإعتراف على أساس العمل العقلي- أن ذلك هو الضامن الوحيد للحصول على معرفة صحيحة في معركة الإعتراف بين أهل المعرفة، ومن ثم على عمل راشد(49).وهذا العمل يصبح لاحقا عملا شعبيا واعيا في معركة الصراع من أجل الإعتراف، ذلك بعد أن يصبح المنتوج المعرفي الجديد مكونا لما يسميه هيجل ب:”عقل الشعب”.وحين تحل هذه المكتسبات المعرفية عند أصحابها هنا محل الملك العيني عند ممن سواهم وقد ربطوا وجودهم – الذي لم يعد يفهم فهما فيزيلوجيا – من فنائهم بقدر الذود عنهاوحمايتها، يصبح الصراع من أجلها ضرورة وجودية, هذا ما سمّاه “هيجل” ” بمعركة الحياة أو الموت”(79).
يحسب هونات لهيجل أنه نجح في صبغ أفكاره المتعلقة بالصراع من أجل الإعتراف صبغة مادية وفي الآن نفسه فهي من منظوره لا تعدو إلاّ أن تكون ظاهرة عقلية غير قابلة للتطبيق. فما بدا مادي الماهية في المنظومة الفكرية الهيجلية أبى الواقع قبوله لأنه كان مجرد حصيلة إفتراضات نسجت في عالم المثل. ولذلك وقفت
محاولات “هيجل” في التأسيس فلسفيا لمنظومة أخلاقية إجتماعية في منتصف الطريق ولم تنجح في بلورة فكرة “الصراع من أجل الإعتراف” القائم عنده على درجاته الثلاث: المحبة, الحق القانوني و الأخلاق. كما أنه تعذر إمكانية تطوير نظريته اليوم لعدم إنسجام المنطلقات الميتافزيكية التي أسس عليها “هيجل” نظريته مع المنطلقات النظرية للفكر المعاصر. الأمر الذي يجعلها خارج دائرة الإختبار التجريبي( 107).
من المثالية إلى الواقعية في دراسة الصراع من أجل الإعتراف في حياة الإنسان النوعي
وجد “هونات” الحل في علم نفس الإجتماع عند “ميد” الذي أسس لدراسة “الصراع من أجل الإعتراف” دراسة علمية .الخصوصي في نظرية “ميد” رآه “هونات” في تفريقه بين “أنا” و “إياي” .
يقدم ميد “أنا ” على كونها مصدرا لكل أعمالنا ,ظلت ماهيتها دائما مشفرة واستعصى على الكل أن ينفذ إليها ويفك رموزها .فما ينسب ل:”أنا” كمكونات لها، يساعدنا على كسب أو تكوين صورة ل”أنا “,عبر وصف ” أنا ” من خارجها من منظور شخص ثان مثلا ,إلا أن هذه الأوصاف لا تقدم “أنا “في جوهرها بل تصفها في ظاهرها .بمعنى أن هذه الاوصاف تقدم فقط “إياي”.(130)
وهذه الأوصاف هي جملة مدركاتنا من و إلى “أنا” سواء كان هذا الإدراك ذاتيا أو خارجيا. ويتكون هذا الإدراك عبر تراكمات الزمن خلال تخزيننا لقيم محيطنا الإجتماعي التي هي بدورها ناحتة ل”أنا” المكتسبة أي ل “إياي”. ويحصل هذا بصفة تلقائية في فترات تقبّل “أنا” لمتطلبات ولقيم خارجية مصدرها محيط “أنا” الإجتماعي(126) . يقابل هذا التقبّل لقيم خارجية باعتراف إجتماعي كمكافأة .وهكذا يستمر هذا “الإعتراف الإجتماعي” المصدر الوحيد لشعور الأنا باحترامها لذاتها عبر إحترام المحيط لها كإعتراف لها بإنسجامها معه .(127)
من ناحية أخرى تجد “أنا” نفسها دائما ميالة للتمرد على القائم والتقليدي وتجاوز ذاتها أي” إياي” المركبة من متطبات القائم التقليدي ذلك حين تبدأ في التشكك و التشكل عبر ما هو فوق المألوف(131). حالة عدم الهدوء الداخلي هذه ينسب لها “ميد” قيمة محورية في مجرى التطور التاريخي في إتجاه المزيد من نيل للحرية والحقوق مثلا .وقد يصبح هذا السلوك مع الزمن مجلبة لنيل الإعتراف المتبادل. يتدارك” ميد” هنا بقوله أن الفرد لا يتوق لنيل الإعتراف عبر نيله لحريته فقط بل إنه يرغب علاوة على ذلك في التميز بأن يكون شخصية منفردة في خصوصياتها ومكوناتها وهذا ما يقف كدافع وراء رغبة تحقيق الذات. وقد وضع “ميد” مجال العمل مكانا لها أين يحس فيه المرء بتميزه عبر المكانة التي يحضى بها لكونه مثلا جراحا ناجحا أو مدرّسة ممتازة للغة الأنجليزية أو لمادة الجغرافيا .
هونات ينتقص وصف “ميد” لتقدير القيمة الإجتماعية على أساس العمل المحبذ اجتماعيا ,حيث أنه يرى أن هناك أنشطة هامة أخرى تتمتع هي الأخرى بتقدير عمومي.
بالإستناد على هيجل فرق “هونات” بين فضاءات ثلاث – المحبة ، الحق القانوني والتضامن- من الإعتراف االمتبادل على ضوء التدرج و التفرقة بين فضاءات تكونها (153) .فالميولات العاطفية التي نخبرها خلال ربط الصداقات أوالعلاقات العاطفية الأخرى نجدها خالية من الإعتراف على أساس قانوني أو على أساس التأييد التضامني كشكلين من أشكال الإعتراف الثلاث، و هي في مجموعها عند “هونات” بمثابة سلما ترتيبيا ترتقي بارتفاع درجاته. درجة الحرية في الفعل للأفراد و معها إرتفاع درجة التقدير المتبادل (278).
أولى الدرجات الثلاث لهذا الإعتراف المتبادل هي المحبة، وقد يكون محورها الشهوة الجنسية بين طرفين مكونين لعلاقتها أو المحبة التي تتجلى في علاقة الوالدين بالأبناء أو تلك التي تنبثق عن الصداقة.
في هذه الحالة او تلك تظهر المحبة نفسها كطاقة إعتراف متبادلة في تنقلها الدائم بين طرفي العلاقة على شاكلة أنا في الآخر والآخر هو أنا، متأرجحة بين التفكير في الذات والتضحية بها ضمن هذه العلاقة .
على هذا النحو يمنح الشعور العميق بهذه المحبة المولّد لطمأنينة حياة أساسها المحبة صاحبه الإحساس بالإنصهار مع المحبوب وفي نفس الوقت عدم الخوف من الوحدة في حالة غيابه(282) .
هذا عن التقدير المتبادل المنبثق عن علاقة المحبة في شكل إحترام للآخر منبعه الميولات والروابط العاطفية .
على خلاف هذا الشكل للتقدير المتبادل، يرى “هونات” في العلاقات ذات النشأة المقننة ما هو أهم. فالمحبة وإن نجحت في الإيفاء بمتطلبات “الحرية” ذات طابع سوسيوسيكولوجي ضمن علاقة إجتماعية محددة, لاقت تحد في قدرتها على تأمين شروط الحرية كأهم أوجه التعابير على نيل “ألإعتراف” في ما عدا ذلك من ساحات النزال حوله, كالصراع من أجل إنتراع الحق في الرفاهة و العيش الكريم أو “الصراع من أجل الإعتراف” في المجال السياسي(188). لكن
على الرغم من إختلاف “المحبة” كمصدر لنيل الإعتراف المتبادل على أسس عاطفية مع طبيعة باقي مصادر نيل الإعتراف كان قد وحّد بينها السعي لنيل الإعتراف بأن كان هنا أوهناك مركز السلوك البشري في العلاقة بين الأفراد أو الجماعات.
يشير” هونات ” في هذا الإطار إلى” هيجل ” و ” ميد ” اللذين رأيا أن فهم المرء الصحيح لنفسه كصاحب حق لا يمكن أن يتحقق إلا عبر معرفته بالتزاماته الواجب إحترامها تجاه الآخر، ضمن العيش المشترك في دولة القانون التي هي بدورها لا تنظر إلى الإنسان – حسب هيجل- ولا تعامله إلا على كونه كائنا ذا حكمة ، حرا ومسؤولا عن فعله. وهذا ما يجعل الفرد بدوره يحرص على إظهار نفسه على أنه جدير بهذا الإعتراف (175) فيرد على الإعتراف بالمثل.
في الوقت الذي أكد فيه هنا “هيجل” على ضرورة توفير شروط الحرية المسؤولة للفرد وحمايتها بقوة القانون كسبيل وحيد لتحقيق الإعتراف المذكور آنفا، يكتفي “ميد” في البداية بإعتماد منطق القانون عند “هيجل” لا ببنيته ضمن علاقة الإعتراف المتبادل في إطار العيش في دولة القانون. حيث أنه يعتبر أن هذا الإعتراف المقنن عند”هيجل” لا يكون مدركا بتفاصيله بل بعمومياته.
كما أن الحق في الإعتراف القانوني عنده يتحدد بمدى الإلتزام بالمتاح من القيم لا بالحق في مناقشتها،ومن ثم الإعتراف والإلتزام بها.
على ضوء هذه المقارنة يطرح “هونات” سؤالين حول خصوصية المقاييس المعتمدة في إقرار الإعتراف القانوني من منظور قانوني حداثوي (178).
في مرحلة أولى، يسأل عن خاصية هذا الإعتراف القانوني القادرة على جمع كل الأفراد المعنيين به، على تنوعهم ، على القبول بشكل واحد لمعنى الحرية الفردية. وكيف يمكن الحديث عن إعتراف متبادل بين الأفراد من منطلقات أخلاقية ضمن علاقة تحدد شروطها القوانين .
هنا فرّق هونات بين الإعتراف القائم على معايير قيمية إجتماعية وبين الإعتراف ذي المعايير القانونية الصرفة(198) . فالإعتراف القانوني هو حق يتمتع به كل أفراد المجتمع الواحد على حد سواء. أما الإعتراف على أساس قيمية إجتماعية فيحضى به ذاك الذي يملك مؤهلات خاصة وقدرات مميزة ينال على ضوئها التقدير والإعجاب من باقي مكونات المجتمع . فهو بذلك على خلاف الإعتراف على أساس القانون في شكله الحديث يمنح الأفراد إعترافا متنوعا بتنوع المؤهلات الفردية ، منطلقا في ذلك من الخاص إلى العام .أما معايير الإعتراف القانوني فتنطلق من العام إلى التفصيل.
وبالقدر نفسه تختلف أوجه المكافأة في كلا الحالتين باعتبارها ترجمان الإعتراف: سابقا كان يطلق على من توفرت فيهم المعايير القيمية الإجتماعية لنيل الإعتراف صفة الشرفاء واليوم الوجاهة أو التبجيل الإجتماعي (202). كما
يبرز دور الإعتراف على أساس المعايير القيمية الإجتماعية كمكون للجماعات أو المجتمعات حين تبدأ الأفراد في تداول تلك القيمة أو القيم فيما بينها، ومع إتساع دائرة ذلك زماكنيّا تصبح تعبر عن مسلمات ثقافية على ضوئها يحدّد الفعل ذو الحضوة الإجتماعية عما سواه . وهكذا يصبح الشعور بالتضامن المنبثق عن التداول البيني للقيم الإجتماعية المولد للتقدير المتبادل القوة المركزية في تكوين الجماعات على إعتبار أن الفعل محل التقدير لا يخدم صاحبه كفرد بل يخدم مصلحة الجماعة التي إجتمع أفرادها على قناعات صاحب الفعل ذاتها.
لكن هل كان قد صدق القول حقا في فعل كهذا. ظاهره، خدمة كل من وحّدته بصاحب الفعل مبادئ وقيم معلنة ؟
هذا ما حاول “هونات “الإجابة عنه في إشارته لمحاولة القانون تبنى مبدأ الحق في التشريف أو التبجيل ليجعل منه
مبدأ عاما بإقرار مبدأ الكرامة للكل وفشل في إستيعاب كل المعايير القيمية الإجتماعية بغرض تقنينها، وذلك لانطلاق
الأخيرة في مقاييسها من الخاص إلى العام. فالفرد من منظورها يصبح جديرا بالإعتراف طالما تميز في قدراته ومؤهلاته. وكلما زاد هذا التميز في التدرج كلما إقترب الفاعل من تجاوز المتاح من تلك المعايير القيمية الإجتماعية ليصبح منتجا لها. وهذا يفرز لاحقا مجتمعات و ثقافات.
مع هذا التطور تتطور معايير تصنيف الإعتراف, من التمتع بالتشريف كمكافئة على الفعل إلى المهابة أوالتبجيل. ويحل محل المسلمات الإجتماعية المسلمات الإبداعات الفردية والقناعات الشخصية (209) في معركة من أجل
الإعتراف الإجتماعي ، ينتزعه الفرد في معركة فرض الذات، وهو يضع المسلمات بالبرهان محل المبهم من المسلمات .وتبعا لهذا التحول النوعي ينتج تحول كمي حين يتطورالمنهج، من منهج فردي إلى نظام مجتمعي. ومن البداهة أن يكون هذا الحراك مشفوعا باصطدامات، ذلك حين تحاول مختلف المشارف فرض رؤيتها في معركة تحقيق الأهداف هذه .
وهذا بدوره يقدم الإضافة إلى المعايير القيمية الإجتماعية وتنشيطها في إتجاه مغادرة الجمود والخمول إلى الحركة والتطور( 207) بالإستماتة في تحقيق الأهداف التي تدوم بديمومتها الحضوة بالإعتراف الإجتماعي كأهم أوجه التضامن على هذا الأساس .
مستندا على عدة نظريات متناقضة ومتصادمة في الآن نفسه إستطاع “هونات” أن يستخلص منها عنصرا موحدا لها وهو” الإعتراف” كضرورة وخاصية للعمل الإنساني من حيث هو إنسان على إعتبار أن ماهية الإنسان الحق و خاصية فعله لا تتحددا بيوفيزيولوجيّا.
لقد أولى “هونات “لهذا الغرض إهتمامه بصفة خاصة لتقد نظرية العمل عند ماركس وعلاقتها بالصراع الطبقي. وقد
أصاب “ماركس” حين إعتبر أن العمل هو الأداة الوحيدة لتحقيق الذات لكنه وقع في تناقض حين إعتمد مفهوم مقاييس المحبة عند “فويرباخ” والطرح الإقتصادي الأنجليزي السائد آنذاك في شرح نظريته ( 237). هكذا يكون قد أقر بالمعنى المشوه للإعتراف الإجتماعي الذي يصدر من المحتاج تجاه مالك الحاجة, ليتخلّص منه حين حل عنده “هيجل” محل “فويرباخ”. هنا إكتسب مفهوم العمل صفة جمالية لكنه بقي محدود الأفق – وإن إجتهد ماركس في الإقتصار عن الديالكتك الهيجلي- حيث أن المقصود بالعمل كأداة للصراع من أجل الإعتراف عند “هيجل” هو عمل عقل الفرد ليصبح لاحقا “عقل الشعب”. بمعنى أن ساحة الصراع بالدرجة الأولى مثالية لاواقعية.
الصراع من أجل الإعتراف كقيمة معيارية في تحديد ماهية الإنسان
لم يتبلور مفهوم العمل كأداة للصراع من أجل الإعتراف عند “ماركس” إلا حين فرق بين العمل كفعل واع والعمل المغرّب (entfremdete Arbeit). مع هذا ظل في فخ ربط العمل بمبدأ المنفعة ربطا مباشرا و إن نظر في ذلك إلى المنفعة العامة. أما طبيعة هذه المنفعة فهي إقتصادية صرفة. فرأس المال هو محور الفعل في معركة فرض الذات ولا مكان في ذلك للأخلاق (238). بل حتى مبدأ الحرية و المساواة المتعارف عليهما في تلك الفترة حاربهما ماركس على إعتبارهما أداة لخدمة الرأسمالية.
تحول أظهره الفكر الماركسي حسب “هونات” حين تخلى عن الإقتصاد كمحور للفعل في الصراع من أجل الإعتراف ليقترب من أفكار “هاردر” (239) و قد أولى أهمية لما استقرمن المتوارث ثقافيا (240) في أنماط الحياة اليومية بما في ذلك الديني منه. مع ذلك بقي على إصراره أن لا مجال للحديث عن الأخلاق كدافع لإنتزاع الإعتراف (241).
يرى “هونات” أن تحول “ماركس” قد أنتجته معاشرته اللصيقة للطبقة الشغيلة خلال محاولة هذه الإخيرة تنظيم حركتها . وكان لا مجال للشك عنده أن الإصرار على إنتزاع الكرامة كانت وقود الفعل في هذه الحركة وهذا ما لفت إنتباهه إلى دور المعتاد ثقافيا في هذه المعركة .أما “صورال” الذي لم يكن أقل من “ماركس” أهمية في الإنتصار لمن سلب منهم الإعتراف، فقد إستمسك بمفهوم” الشرف ” – رغم الطابع المحافظ لهذا المفهوم في المعجم السياسي آنذاك- لما تضمنه هذا المفهوم في عهده من معاني أخلاقية ذات وقع إيجابي على المتلقي من الحركة العمالية .
على نقيض “ماركس” وضمن المنظومة الماركسية ذاتها قدم “هونات” بهذا مركزية ألأخلاق عند “صورال” الذي يعتبر “ألأوتليطارزموس” في المنظومة الماركسية منافيا للأهداف الأخلاقية الماركسية.
الملفت أن “ًصورال” في نظريته “الأخلاق الإشتراكية ” لم يجرأ على الجمع بين “كانط” و “هيجل” فحسب في نقاشه لدوافع الصراع من أجل ألإعتراف – وقد رد دوافعه إلى “الرغبة في الجديد” حسب هونات- ، بل أنه فقد إخلاقياته حين وجدت نظريته الأخلاقية نفسها لاحقا في تماس مع التقاليد المكيافلية(248).
أما النموذج الثالث للصراع من أجل الإعتراف الذي قدمه “هونات” في كتابه فقد خص به حركة “جون بول سارتر” وقد إستند مؤسسها – كما رآى ذلك هونات- على “صورال” ولو بشكل جزئي في شرح منطلقات الصراع من أجل الإعتراف.
فقد عرّفها سارتر في أرشد مراحل نظريته فلسفيا في معرض تحليله للسلوك الإستعماري تعريفا “بطولوجي”( 252). كما أنه كغيره ممن سبقه من المفكرين إعتبر الصراع من أجل الإعتراف هو الرد الفعلي الطبيعي عند الإنسان مكتمل الماهية على سلب الإعتراف منه بغية إسترجاعه أو إنتزاعه. وقد نوّع فضاءات تحقيق ذلك. استند “هونات” في تبيان ذلك على” فرنتس فانون” الذي بيّن بدوره مدى تأثر “سارتر” بالفكر الهيجلي.
لم يهمل هونات في كتابه وجهتي نظر مدرستين إنشغلتا بدراسة “الصراع من أجل الإعتراف” من منظور علم الإجتماع.
في ختام كتابه قدم “هونات” نظرية “ماكس فيبر” في الصراع من أجل الإعتراف ضمن التنشئة الإجتماعية كنقيض لنظرية “الأزمة الأخلاقية في المجتمعات الحديثة” عند ” إميل دوركهايم” و “فردند تونيس”.
على نقيضهما وجد” هونات” ما قال به” ماكس فيبر” في سياق الصراع من أجل الإعتراف وقد نفى أن يكون للأخلاق دور في هذا الصراع القائم في نظم و حياة تشكلات إجتماعية، مستعيضا على ذلك “بالإرادة” لنيل أوفر حض من مقومات الحياة.
أما “جيورج سمّل” فقد رد مصدر الصراع من أجل الإعتراف في ما لخّصه في باب “الوظيفة الجامعة للصراع ” إلى إختلاف الإحساس الإجتماعي و غريزة العداء .
خاتمة
نخلص في النهاية إلى القول بأنه على إختلاف أراء الفلاسفة في تحديد دوافع “الصراع من أجل الإعتراف” إلا أنهم أجمعوا على أن سحب أو رفض الإعتراف ظل دائما وقود الفعل عند إتسان القيمة وشرارة نار ثوراته و إنتفاضاته في معارك إنتزاع الإعتراف واسترداد الكرامة، ذلك حين تستقر القناعات في القلب بعد العقل فيصدقها العمل. و بديهي أن لا إنتفاضة لمن لا كرامة له. هذا ما يحسب للفيلسوف الألماني” أكسل هونات “، كما أصاب في إختيار الموضوع ” الصراع من أجل ألإعتراف” لدراسة الصراعات الإجتماعية والتأكيد على ضرورة إمتلاك الفرد للجرأة والقدرة على أخذ المبادرة حتى لا يكون الحال إرتهان للواقع المعيش، لكنه فشل في تبيان أسبقية دور الفرد على دور المجموعة، كما يحسب عليه أنه أهمل الجانب المرضي في معارك الصراع من أجل الإعتراف مثلما هو عليه حال الواقع العربي
الإسلامي اليوم أين يسود فيه التمتع باعتراف إجتماعي من وراء حمل كاذب وقد كان ذلك كفيلا بتثبيت حالة التقهقر في التخلف كخصوصية تنموية لواقع الحال.
الدكتور عمار الفتيتي
ألمانيا
اترك تعليقاً