المسيح الدجال ” رضي الله عنه”
يسأل العاقل نفسه في فترات الصراع مع ذاته عن جدوى مواصلة إنفاق الجهد والوقت والمال على أمل الإصلاح إن كان قد أيقن بعد تجارب و بحث وتدقيق أن الواقع في تونس بلغ مرحلة اليأس من الإنقاذ، والحال أن مزاعم الإصلاح السائدة في هكذا حال هي الضامن لاستمرار رداءته و ليس لها من فضيلة سوى تخدير المدارك ومن ثم حجب مخاطرها ونتائجها عن التبع.
لكن بقدر ما يدرك هذا المحاور لذاته عدم أهلية الواقع للإصلاح إلا من خطابات إصلاح تقليدي مضارها أكثر من نفعها وهذا في أفضل الأحوال ينظر إلى وفي عطاء شركائه في بلد إقامته وقد تفرغوا اليوم لتوفير أسباب الرفاهة للحيوانات فيحز في نفسه مستوى حياة البشر في بلده الأم وقد انتفت فيها الحدود الدنيا لمتطلبات الحياة الآدمية (انظر في الصورتين) وذلك حين شوه فهم وظيفة الخاصيّة التي كرّم على أساسها الآدمي عند ” الصفوة” وبديهي أن ينعكس وعي “الصفوة” على الأتباع ، بعد أن ركن الخطيب ومستهلكي خطابه إلى استحسان خطاب تهييج العواطف والمواساة ، وهو بلا شك أيسر على الإنتاج عند محترفي الخطاب من مواقعهم المتنوعة ، كما أنه اقرب للاستحسان و الإتباع في واقع سمته الفشل حيث يسهل أن ينال خطابك العاطفي استحسانا عند الفقير مثلا حين تصنّفه في قائمة الأنبياء على اعتبار أن الأنبياء كانوا كذلك فقراء لكن ردة الفعل تكون عكسية في حال تحفيزه على أن الفقر وأخطره الفقر المعرفي هو نكال بما وقر في القلب من خطابات شعوذة خلفت وعيا مشوها بالذات وإدراكا منحرفا بالحقائق. ولعل من أوحش الأمثلة للخطابات المضللة وتأثيراتها هو ما نجده في قصة المسيح الدجال، وما أكثر نظائره اليوم . فهو على بشاعته خلقة وخلقا يستطيع أن يضلل ويجر خلفه جيوشا من البسطاء الذين يسهل صيدهم ومن ثم تخريب مصيرهم، يقابل ذلك نجاح الدجال في بناء مجد له .
والحديث هنا يعني كذلك نظيرا للمسيح الدجال في الواقع التونسي الذي بنى لنفسه مجدا ما كان ليبلغه لو استمر في محاولاته الفاشلة لتحقيقه عبر الشعوذة باسم المعرفة والنفخ في صورته عبر انتحال صفة رجل فكر و معرفة ، وقد سهل عليه أن يغتصب لنفسه درجات الدكتوراه وغيرها من مراتب المعرفة في المسرحيات السياسية في غمرة اصطياد البسطاء وقود مجده “المزعوم”. وتحقق له المجد مثلما سيتحقق للمسيح الدجال مجده.
ولسائل أن يسأل عن أمثلة لما وصفتها بالمسرحيات السياسية. أذكر هنا عينة ذات وظيفة مركبة وهي زيارته الشيخ لـ”بوتفليقة” الذي يشغل وظيفة رئيس للجزائر، هذا لمن لم يسبق له ان سمع بهذا الاسم. فهذا الأخير خالف ذوق الباقين الذين أوصدوا الباب أمام تلبية رغبة “الشيخ” في زيارتهم عله يصبح على أساسها رجل الدولة في أعين البسطاء من التبع ومن ثم يوصد هو بدوره الباب إلى الأبد على كل منافس له على الزعامة في المستقبل في حال نظمت انتخابات وتجرأ منافس على المنافسة . ولكي يكتمل المشهد المسرحي عند “الشيخ” كان عليه أن لا يذكر بوتفليقة بعد عودته من زيارته بصفة رئيس بل يكتفي بقول ” سي عبد العزيز ” حتى يحس المتلقي بسمو مكانة الشيخ السياسية كسمو مضيفه فهنيئا للاثنين معا .
من الغباء أن يكلف العارف بأحوال الشيخ أعباء السؤال إن كان هو بحق على قناعة بسلوكيات يسعى هو أن يقنع العامة بها في شأن مؤهلاته. لأن الإجابة عن هذا السؤال تجدها كل عين مجردة ماثلة أمامها عند النظر في أحوال من سلّموا يوما بزعامة الشيخ ، ولعل ما آلت إليه أحوال من كانوا معه و تحت زعامته في المهجر و الداخل في مرحلة الاختبار الحقيقي هي أقوى الأدلة عن مؤهلات الشيخ ، وليس آخرها الأخلاقية منها باعتبار الشعور بالمسؤولية تجاه من صدقوا به يوما أنه الزعيم هي أدنى درجات المسؤولية الأخلاقية التي كان يجب أن يتحلى بها، لذلك تركهم كالأيتام تعصف بهم الأمواج العاتية في بحر ثقافي لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ما كان الزعيم أن يقوى على السباحة فيه وإن أراد وهذا لا يعفيه من المسؤولية.
فبالنظر في مؤهلات الشيخ الحقيقية قد يجد المرء مبررا لرفع القلم على الشيخ فترفع عنه المسؤولية إذ لا تكلف نفس إلا وسعها. لكن هذا يحق في شخص ينظر إلى المسؤولية كوسيلة لتحقيق غاية سامية وليست هي الغاية في حد ذاتها، و هذا ديدن الشيخ عند العارف بحاله وكان له ما أراد في سوق السياسة التونسية التي هي الخساسة بعينها، حيث العمل على تعويض الفشل الشخصي هو أهم عوامل النجاح فيها …وجاءت لقطة الثورة ليلتقطها “الشيخ” هي الأخرى ويحيد بها عن مسارها بغرض الانتخابات الذي هو كتابة دستور احتفل الشيخ في مشهد من مشاهد ذر الرماد بنجاحاته في كتابته غير عابئ بأرواح و آمال الذين جاؤوا به فأصبح رمزا على حساب دماءهم و جروحهم ودموع الأمهات الثكالة. وكان عليه هذه المرة أن يطعم من لقطة الانتخابات من بقي يغدق عليه عبارات الوفاء في المهجر بأنه شيخ ما إن يضرب بعصاه الحجر تنفجر منه خمسة عشر عينا… وطبيعي أن يضيق صدر هذا الشيخ الذي يكره “التغول” من كل رأي صادر عن دائرته التنظيمية ينذر بخيبة المسعى تحت قيادته . بل حتى ظهور هذا أو ذاك في الإعلام فتلك هذه الأخرى مسألة قد يعتبرها الشيخ إعلان حرب في معركة البروز لأن أمرا كهذا ملك ” الزعيم” الأوحد.
سوف لا أتطرق إلى المواضيع المعقدة والحال أني على بينة من مؤهلات “الشيخ” الحقيقية التي لا تؤهله لكي يكون “شاوش” على أبواب وزارة ، ولهذه الأسباب شرد الأتباع وهمشت آمال أصحاب الثورة على ضعف مؤهلات ” القيادة” أما من شك في دقة هذا التقدير فليبحث في مؤهلات ” الشيخ ” الحقيقية” لا الموهومة.
ما سأتطرق إليه هو فقط ما تعلق بتكتيكات الشيخ “لمتكتك” المتعلقة بتنسيقه مع قوى الردة السياسية ضمن برنامجه “سياسة التنافق” في تونس وقد ارتضى لنفسه دور التياس كعادته . والتياس لمن لا يعرفه هو الشخص الذي يوظف على يد المنافق ، ذلك حين تطلق من المنافق زوجته ولا تحل له إلا بعد أن ينكحها غيره فيلجأ المنافق إلى الحيل الفقهية ويشتري ذكرا ليلعب هذا الدور أي دور التياس.
أما اضطرار الشيخ لهذه الوضعية فهو الفشل الذي هو النتيجة الطبيعية لتراكمات عدوه خلف الزعامة بأي ثمن ليجد نفسه على الرصيف السياسي وإن كان قد وعده السيد السبسي بعدم طرده من البلاد ثانية و هذا ما جاء في كلمة السيد السبسي بمناسبة اعتلائه عرش تونس السياسي .
لكن يبدو أنه قد عز على الشيخ أن يقف عند قدر نفسه بعد أن وضعته نتيجة الانتخابات في وضعية محرجة له وتقطعت السبل بالشيخ ” إلي يتكتك”. فقد وجد نفسه أمام أمرين أحلاهما مرا: أيعارض ؟ وأنى له أن يعارض ، وقد وقع بين مخالب العصابات ومصادر أموالهم الوسخة وتنسيقات سياسية سابقة أكثر وساخة ؟ أم يبقى بالاسم معارضا وممارسة فهو متحالف على أمل تحقيق المصلحة الشخصية عبر خطاب الدعوة إلى المصلحة العامة، وهذا ما سيدفع إلى انفضاض من تبقى حوله .إذن فما الحل ؟
الحل وجده في الاستغاثة بالسيد السبسي ليمنحه حقائب ” شواش ” وهكذا رفع عنه حرج مشقة الوجود في قائمة المعارضة ، فوظف خير توظيف للعب دور التياس.
ظهر ذلك في استعمال الشيخ من قبل حزب الأغلبية لكسب الشرعية الاجتماعية لكل القرارات التي تعود بالبلاد إلى ما قبل 2010.12.17 وهنا أتجاوز القرارات ذات الصبغة السياسية البحتة إلى تلك المتعلقة بخنق روافد الهوية الدينية وهي المصدر الأساسي لارتزاق الشيخ السياسي . وأنا إذ أذكر الهوية الدينية فهذا لا من باب أني متدين حيث العكس هو الصحيح وهذا من فضل الله علي وعلى الهوية الإسلامية في الآن نفسه أن لا يضاف إليها من يزيد في تلويثها وحجب سماتها الحقة.
ما دفعني لذكر الهوية الدينية كمثال هنا هو فقط إبراز دور ” التياس” في ذلك وهو يكشف بجلاء تغليب إدمانه على البقاء في الصورة بأي ثمن كان، ناهيك أن دور ” التياس ” هنا يهون عليه مشاق وتبعات عمل المعارضة في وضعية كوضعية سبق الإشارة اليها سابقا. وازداد دور التياس في الوضوح والتبلور على ضوء الممارسات الأخيرة لحركة
الردة السياسية كانت من البداية قد حيكت على مقاس توظيف “الشيخ التياس ” أن وضع لحركة الردة إطارا قانونيا ، أي قانون الطوارئ الذي كانت مقاصده سافرة تمام السفور… فعادت سياسة تجفيف منابع الحرية الدينية ـ وعلى الباقين ستدور الدوائر لاحقا ـ على يد مفتي “ليلى” ضد الممارسة الدينية ، وما على” التياس ” إلا أن يشيد بذلك ، إلى أن بلغت نيران هذا السلوك أذيال الملابس الرثة ” للتياس ” كمتسول سياسي على أبواب نجوم التجمع . وأصبح كل من تلوث بالانتماء إلى مزرعته السياسية أو حتى مجرد الظهور عن قرب منها هدفا للإقصاء قيل عنه في البداية أنه موجه ضد الإرهاب ، وهذا ـ أي التخفي وراء مقاومة الإرهاب ـ مزحة ثقيلة الظل لا يجرأ على التصديق بها إلا أمثال ” التياس” . ولعل من قرأ أمس كتاب الثقافة الإسلامية في محاكم الحداثة يذكر ما أشار إليه كاتبه في هذا السياق وكان ذلك في سنة 2005.
فمن يمارس “الإرهاب” كالمجاهد ضد المستعمر أو كأشخاص حاملي لأصدق النوايا ـ إذ لا أصدق نية ممن يضع حياته ثمن قناعاته اللهم ان كان مرائيا ـ ولكن أفسدوا ذلك بآليات تنفيذها بسبب العوز المعرفي ، وهذا في ما يتعلق بنشاطهم في تونس حيث إمكانية إقامة الحجة بالكلمة لا تزال قائمة. فهؤلاء لا يمكن أن يدرك القانون تحركاتهم وبالتالي فالتخفي وراء قوانين إستثنائية ” قانون الإرهاب ” من اجل مطاردتهم هو في حقيقته قانون للتصفية السياسية ليس إلا . وها نحن اليوم نرى أنه قد أدرك دائرة “التياس” بعد أن استعمل التياس ذاته لإضفاء الشرعية الاجتماعية على هذا القانون.
نخلص هنا إلى القول بأن ويلات سلوكيات هذا التياس لم تصب الذين ظلموا خاصة، كظلمة ظالمي أنفسهم بالانسياق الأعمى، بل أتت نيرانها على الأخضر و اليابس و الحال أن الشيخ التياس يناور بمكتسبات مجتمع برمته.
و قد لا أغالي حين أقول انه في حال حصلت يقظة و تم طرد الشيخ التياس من النهضة فإن ذلك سوف لن يكون الحل لثقل التركة التي سيخلفها الشيخ. فالمرء لا يقف فقط أمام ضخامة حجم جبر الأضرار لأن هذا سوف لن يتحقق بسبب حالة الارتهان الكلي التي سيجد الخلف نفسه فيها و من ثمة يسود الاعتقاد أنه لا مخرج إلا بالتسليم لحالة الارتهان التي هندسها الشيخ، شأن أصحاب هذا الرأي هو شأن الذين كانوا يأملون من الثورة تحقيق جزء من آمالهم فأصبح بعضهم ـ بصرف النظر عن المندسين بينهم ـ يجرأ على تمجيد مرحلة ما قبل الثورة من فرط حالة اليأس.
اترك تعليقاً